فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال الضحاك: في ذكره، يعني القرآن والعمل به.
وقيل: في جهة طاعته، والجنب: الجهة، وقال الشاعر:
أفي جنب تكنى قطعتني ملامة ** سليمى لقد كانت ملامتها ثناء

وقال الراجز:
الناس جنب والأمير جنب

ويقال: أنا في جنب فلان وجانبه وناحيته؛ وفلان لين الجنب والجانب.
ثم قالوا: فرط في جنبه، يريدون حقه.
قال سابق البربري:
أما تتقين الله في جنب عاشق ** له كبد حرى عليك تقطع

وهذا من باب الكناية، لأنك إذا أثبت الأمر في مكان الرجل وحيزه، فقد أثبته فيه.
ألا ترى إلى قوله:
إن السماحة والمروءة والندى ** في قبة ضربت على ابن الحشرج

ومنه قول الناس: لمكانك فعلت كذا، يريدون: لأجلك، وكذلك فعلت هذا من جهتك.
وما في ما فرطت مصدرية، أي على تفريطي في طاعة الله.
{وإن كنت من الساخرين} قال قتادة: لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى سخر من أهلها.
وقال الزمخشري: ومحل وإن كنت النصب على الحال، كأنه قال: فرطت وأنا ساخر، أي فرطت في حال سخريتي. انتهى.
ويظهر أنه استئناف إخبار عن نفسه بما كان عليه في الدنيا، لا حال.
{أو تقول لو أن الله هداني} أي خلق في الهداية بالإلجاء، وهو خارج عن الحكمة، أو بالألطاف، ولم يكن من أهلها فيلطف به، أو بالوحي، فقد كان، ولكنه أعرض، ولم يتبعه حتى يهتدي.
وإنما يقول هذا تحيرًا في أمره، وتعللًا بما يجدي عليه.
كما حكى عنهم التعلل بإغواء الرؤساء والشياطين ونحوه: لو هدانا الله لهديناكم.
انتهى، وهو على طريقة الاعتزال.
وانتصب {فأكون} على جواب التمني الدال عليه لو، أو على كرة، إذ هو مصدر، فيكون مثل قوله:
فما لك منها غير ذكرى وحسرة ** وتسأل عن ركبانها أين يمموا

وقول الآخر:
للبس عباءة وتقر عيني ** أحب إليّ من لبس الشفوف

والفرق بينهما أن الفاء إذا كانت في جواب التمني، كانت أن واجبة الإضمار، وكان الكون مترتبًا على حصول المتمني، لا متمنى.
وإذا كانت للعطف على كرة، جاز إظهار أن وإضمارها، وكان الكون متمني.
{بلى} هو حرف جواب لمنفي، أو لداخل عليه همزة التقرير.
ولما كان قوله: {لو أن الله هداني} وجوابه متضمنًا نفي الهداية، كأنه قال: ما هداني الله، فقيل له: {بلى قد جاءتك آياتي} مرشدة لك، فكذبت.
وقال الزمخشري: رد من الله عليه ومعناه: بلى قد هديت بالوحي.
انتهى، جريًا على قواعد المعتزلة.
وقال ابن عطية: وحق بلى أن تجيء بعد نفي عليه تقرير، وقوله: {بلى} جواب لنفي مقدر، كأن النفس قالت: فعمري في الدنيا لم يتسع للنظر، أو قالت: فإني لم يتبين لي الأمر في الدنيا ونحو هذا. انتهى.
وليس حق بلى ما ذكر، بل حقها أن تكون جواب نفي.
ثم حمل التقرير على النفي، ولذلك لم يحمله عليه بعض العرب، وأجابه بنعم، ووقع ذلك أيضًا في كلام سيبويه نفسه أن أجاب التقرير بنعم اتباعًا لبعض العرب.
وقال الزمخشري: فإن قلت: هلا قرن الجواب بما هو جواب له، وهو قوله: {لو أن الله هداني} ولم يفصل بينهما بآية؟ قلت: لأنه لا يخلو، إما أن يقدم على أخرى القرائن الثلاث فيفرق بينهن، وإما أن تؤخر القرينة الوسطى.
فلم يحسن الأول لما فيه من تبتير النظم بالجمع بين القرائن؛ وأما الثاني، فلما فيه من نقض الترتيب، وهو التحسر على التفريط في الطاعة، ثم التعلل بفقد الهداية.
ثم تمنى الرجعة، فكان الصواب ما جاء عليه، وهو أنه حكى أقوال النفس على ترتيبها ونظمها، ثم أجاب من بينها عما اقتضى الجواب.
انتهى، وهو كلام حسن.
وقرأ الجمهور: {قد جائتك} بفتح الكاف وفتح تاء ما بعدها، خطابًا للكافر ذي النفس.
وقرأ ابن يعمر والجحدري، وأبو حيوة، والزعفراني، وابن مقسم، ومسعود بن صالح، والشافعي عن ابن كثير، ومحمد بن عيسى في اختياره وعن نصير، والعبسي: بكسر الكاف والتاء، خطاب للنفس، وهي قراءة أبي بكر الصديق وابنته عائشة، رضي الله عنهما، وروتهما أم سلمة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم.
وقرأ الحسن، والأعرج، والأعمش: {جأتك} بالهمز من غير مد، بوزن بعتك، وهو مقلوب من جاءتك، قدمت لام الكلمة وأخرت العين فسقطت الألف، كما سقطت في رمت وعرب.
ولما ذكر مقالة الكافر، ذكر ما يعرض له يوم القيامة من الإنذار بسوء منقلبة، وفي ضمنه وعيد لمعاصريه، عليه السلام.
والرؤية هنا من رؤية البصر، وكذبهم نسبتهم إليه تعالى البنات والصاحبة والولد، وشرعهم ما لم يأذن به الله.
والظاهر أنه عام في المكذبين على الله، وخصه بعضهم بمشركي العرب وبأهل الكتابين.
وقال الحسن: هم القدرية يقولون: إن شئنا فعلنا، وإن شئنا لم نفعل.
وقال القاضي: يجب حمل الآية على الكل من المجبرة والمشبهة وكل من وصف الله بما لا يليق به نفيًا وإثباتًا، فأضاف إليه ما يجب أن لا يضاف إليه، فالكل كذبوا على الله؛ فتخصيص الآية بالمجبرة والمشبهة واليهود والنصارى لا يجوز.
وقال الزمخشري: {كذبوا على الله} وصفوه بما لا يجوز عليه، وهو متعال عنه، فأضافوا إليه الولد والشريك، وقالوا: {شفعاؤنا عند الله} وقالوا: {لو شاء الرحمن ما عبدناهم} وقالوا: {والله أمرنا بها} ولا يعبد عنهم قوم يسفهونه بفعل القبائح.
ويجوز أن يخلق خلقًا لا لغرض، وقوله: لا لغرض، ويظلمونه بتكليف ما لا يطاق، ويجسمونه بكونه مرئيًا مدركًا بالحاسة، ويثبتون له يدًا وقدمًا وجنبًا مستترين بالبلكفة، ويجعلون له أندادًا بإثباتهم معه قدمًا.
انتهى، وكلام من قبله على طريقة المعتزلة.
والظاهر أن الرؤية من رؤية البصر، وأن {وجوههم مسودة} جملة في موضع الحال، وفيها رد على الزمخشري، إذ زعم أن حذف الواو من الجملة الاسمية المشتملة على ضمير ذي الحال شاذ، وتبع في ذلك الفراء، وقد أعرب هو هذه الجملة حالًا، فكأنه رجع عن مذهبه ذلك، وأجاز أيضًا أن تكون من رؤية القلب في موضع المفعول الثاني، وهو بعيد، لأن تعلق البصر برؤية الأجسام وألوانها أظهر من تعلق القلب.
وقرئ: {وجوههم مسودّة} بنصبهما، فوجوههم بدل بعض من كل.
وقرأ أبي: {أجوههم} بإبدال الواو همزة، والظاهر أن الاسوداد حقيقة، كما مر في قوله: {فأما الذين اسودت وجوههم} وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون في العبارة تجوز، وعبر بالسواد عن ارتداد وجوههم وغالب همهم وظاهر كآبتهم.
ولما ذكر تعالى حال الكاذبين على الله، ذكر حال المتقين، أي الكذب على الله وغيره، مما يؤول بصاحبه إلى اسوداد وجهه، وفي ذلك الترغيب في هذا الوصف الجليل الذي هو التقوى.
قال السدي: {بمفازتهم} بفلاحهم، يقال: فاز بكذا إذا أفلح به وظفر بمراده، وتفسير المفازة قوله: {لا يسمهم السوء ولا هم يحزنون} كأنه قيل: وما مفازتهم؟ قيل: لا يمسهم السوء، أي ينجيهم بنفي السوء والحزن عنهم، أو بسبب منجاتهم من قوله تعالى: {فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب} أي بمنجاة منه، لأن النجاة من أعظم الفلاح، وسبب منجاتهم العمل الصالح، ولهذا فسر ابن عباس رضي الله عنه المفازة: بالأعمال الحسنة؛ ويجوز بسبب فلاحهم، لأن العمل الصالح سبب الفلاح، وهو دخول الجنة.
ويجوز أن يسمى العمل الصالح بنفسه مفازة، لأنه سببها.
فإن قلت: {لا يمسهم} ما محله من الإعراب على التفسيرين؟ قلت: أما على التفسير الأول فلا محل له، لأنه كلام مستأنف، وأما على الثاني فمحله النصب على الحال. انتهى.
وقرأ الجمهور: {بمفازتهم} على الإفراد، والسلمي، والحسن، والأعرج، والأعمش، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر: على الجمع، من حيث النجاة أنواع، والأسباب مختلفة.
قال أبو علي: المصادر تجمع إذا اختلفت أجناسها كقوله: {وتظنون بالله الظنونا} وقال الفراء: كلا القراءتين صواب، تقول: قد تبين أمر الناس وأمور الناس.
ولما ذكر تعالى الوعد والوعيد، عاد إلى دلائل الإلهية والتوحيد، فذكر أنه خالق كل شيء، فدل على أعمال العباد لاندراجها في عموم كل شيء، وأنه على كل الأشياء قائم لحفظها وتدبيرها.
{له مقاليد السموات والأرض} قال ابن عباس: مفاتيح، وهذه استعارة، كما تقول: بيد فلان مفتاح هذا الأمر.
وعن رسول الله صلّى اللّه عليه وسلم: «أن المقاليد لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، بيده الخير، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير» وتأويله على هذا: أن لله هذه الكلمات، يوحد بها ويمجد، وهي مفاتيح خير السموات والأرض، من تكلم بها من المتقين أصاب.
{والذين كفروا بآيات الله} وكلماته توحيده وتمجيده، {أولئك هم الخاسرون}.
وقال الزمخشري: فإن قلت: بم اتصل قوله: {والذين كفروا}؟ قلت: بقوله: {وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم والذين كفروا هم الخاسرون} واعترض بينهما: بأن خالق الأشياء كلها، وهو مهيمن عليها، لا يخفى عليه شيء من أعمال المكلفين منها وما يستحقون عليها من الجزاء، وأن {له مقاليد السموات والأرض}.
قال أبو عبد الله الرازي: وهذا عندي ضعيف من وجهين: الأول: أن وقوع الفاصل الكثير بين المعطوف والمعطوف عليه بعيد.
والثاني: أن قوله تعالى: {وينجي الله الذين اتقوا} جملة فعلية، وقوله: {والذين كفروا} جملة اسمية، وعطف الجملة الاسمية على الجملة الفعلية لا يجوز، والأقرب عندي أن يقال: إنه لما وصف بصفات الإلهية والجلالة، وهو كونه خالق الأشياء كلها، وكونه مالكًا لمقاليد السموات والأرض، وقال: الذين كفروا بهذه الآيات الظاهرة الباهرة هم الخاسرون.
انتهى، وليس بفاصل كثير.
وقوله: وعطف الجملة الاسمية على الجملة الفعلية لا يجوز، كلام من لم يتأمل لسان العرب، ولا نظر في أبواب الاشتغال.
وأما قوله: والأقرب عندي فهو مأخوذ من قول الزمخشري، وقد جعل متصلًا بما يليه، على أن كل شيء في السموات والأرض فالله خالقه وفاتح بابه، والذين كفروا وجحدوا أن يكون الأمر كذلك {أولئك هم الخاسرون}. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

قوله: {فَإِذَا مَسَّ الإنسان} المراد بالإنسان هنا: الجنس باعتبار بعض أفراده، أو غالبها.
وقيل: المراد به الكفار فقط، والأوّل أولى، ولا يمنع من حمله على الجنس خصوص سببه، لأن الاعتبار بعموم اللفظ، وفاء بحقّ النظم القرآني، ووفاء بمدلوله، والمعنى: أن شأن غالب نوع الإنسان أنه إذا مسه ضرّ من مرض، أو فقر، أو غيرهما دعا الله، وتضرع إليه في رفعه، ودفعه {ثُمَّ إِذَا خولناه نِعْمَةً مّنَّا} أي: أعطيناه نعمة كائنة من عندنا {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ} مني بوجوه المكاسب، أو على خير عندي، أو على علم من الله بفضلي.
وقال الحسن: على علم علمني الله إياه.
وقيل: قد علمت أني إذا أوتيت هذا في الدنيا أن لي عند الله منزلة، وجاء بالضمير في أوتيته مذكرًا مع كونه راجعًا إلى النعمة؛ لأنها بمعنى: الإنعام.
وقيل: إن الضمير عائد إلى ما، وهي: موصولة، والأوّل أولى {بَلْ هي فِتْنَةٌ} هذا ردّ لما قاله، أي: ليس ذلك الذي أعطيناك لما ذكرت، بل هو محنة لك، واختبار لحالك أتشكر أم تكفر؟ قال الفراء: أنث الضمير في قوله: {هي} لتأنيث الفتنة، ولو قال: بل هو فتنة لجاز.
وقال النحاس: بل عطيته فتنة.
وقيل: تأنيث الضمير باعتبار لفظ الفتنة، وتذكير الأوّل في قوله: {أُوتِيتُهُ} باعتبار معناها: {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أن ذلك استدراج لهم من الله، وامتحان لما عندهم من الشكر، أو الكفر.
{قَدْ قَالَهَا الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي: قال هذه الكلمة التي قالوها، وهي قولهم: إنما أوتيته على علم الذين من قبلهم كقارون، وغيره، فإن قارون قال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عِندِى} [القصص: 78] {فَمَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} يجوز أن تكون ما هذه نافية، أي: لم يغن عنهم ما كسبوا من متاع الدنيا شيئًا، وأن تكون استفهامية، أي: أيّ شيء أغنى عنهم ذلك {فأصابهم سَيّئَاتُ مَا كَسَبُواْ} أي: جزاء سيئات كسبهم، أو أصابهم سيئات هي جزاء كسبهم، وسمي الجزاء سيئات لوقوعها في مقابلة سيئاتهم، فيكون ذلك من باب المشاكلة كقوله: {وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا} [الشورى: 40].
ثم أوعد سبحانه الكفار في عصره، فقال: {والذين ظَلَمُواْ مِنْ هَؤُلاَء} الموجودين من الكفار {سَيُصِيبُهُمْ سَيّئَاتُ مَا كَسَبُواْ} كما أصاب من قبلهم، وقد أصابهم في الدنيا ما أصابهم من القحط، والقتل، والأسر، والقهر {وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} أي: بفائتين على الله بل مرجعهم إليه يصنع بهم ما شاء من العقوبة.
{أَوَ لَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء} أي: يوسع الرزق لمن يشاء أن يوسعه له {وَيَقْدِرُ} أي: يقبضه لمن يشاء أن يقبضه، ويضيقه عليه.
قال مقاتل: وعظهم الله، ليعتبروا في توحيده، وذلك حين مطروا بعد سبع سنين، فقال: أو لم يعلموا أن الله يوسع الرزق لمن يشاء، ويقتر على من يشاء {إِنَّ في ذَلِكَ لآيَاتٍ} أي: في ذلك المذكور لدلالات عظيمة، وعلامات جليلة {لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} وخصّ المؤمنين؛ لأنهم المنتفعون بالآيات المتفكرون فيها.